الجنوب برس

تراثنا نعتز به: قصيدة: خلي قد هجرني: لللشاعر : عبدالله هادي سبيت (دراسة تحليلية).
منوعات الجنوب برس*
خلّي قد هجرني وا نفس اصبري
خلّي قد جفاني وا عين اسهري
خلّي باعني يا ليتـه يشتري
خلّي من دموعي خطّر مدفري
شوفه قد تعدى (حَدّ الزغبَري)
فاشربْ من دموعي هنيّاً مري
يا نفس المتيّم في الحب اقبري
يا عين المُهَيّم بالدمع امطري
سقّي الأرض لمّا (حّدّ المنصري)
ليته ليت با يُطلِقني آسري
ليته ليت با "يصفى لي الجابري"
قلبي له عقيرة تحت الحازري
خلّي من جبينه يطلـع قامري
خلّي في خدوده جنة ناظري
خلّي في شفاته خمرة خاطري
فيها الحب في الوادي يجري جري
خلّي في غرامه ضل (السامري).
### شرح معاني أبيات القصيدة:
1. **خلّي قد هجرني وا نفس اصبري**
الشاعر يبدأ بالحديث عن حبيبه الذي هجره، فيطلب من نفسه الصبر على هذا الألم والفراق، وهو تعبير عن مشاعر الأسى والتحمل التي يعيشها بعد أن ابتعد عنه الحبيب.
2. **خلّي قد جفاني وا عين اسهري**
هنا، يتحدث الشاعر عن جفاء الحبيب، ويطلب من عينيه أن تسهر ليلاً بسبب الألم واللوعة الناتجة عن هذا الجفاء، وكأن النوم لم يعد ممكناً بسبب التفكير المستمر بالحبيب.
3. **خلّي باعني يا ليتـه يشتري**
يشير الشاعر إلى أن الحبيب قد تخلّى عنه كما لو أنه باعه، ويتمنى لو يعود الحبيب ويشتريه من جديد، إشارة إلى الرغبة في العودة إلى العلاقة والصلح.
4. **خلّي من دموعي خطّر مدفري**
يستمر الشاعر في وصف حزنه الشديد، فيقول إن دموعه أصبحت تجري بغزارة كأنها مجرى مائي (مدفري) يتحرك بقوة. وهنا يستخدم "خطّر" كإشارة إلى جريان الدموع.
5. **شوفه قد تعدى (حَدّ الزغبَري)**
في هذا البيت، يصف الشاعر كيف أن الحبيب قد تجاوز الحد، حيث أصبح جفاؤه وهجره أكثر مما يمكن تحمله. "حد الزغابرة" يرمز إلى الحد الأقصى الذي لم يعد الشاعر قادراً على تحمله.
6. **فاشربْ من دموعي هنيّاً مري**
الشاعر يتحدث هنا إلى الحبيب، قائلاً له إن بإمكانه أن يشرب من دموعه، وكأن دموعه قد أصبحت مصدراً للسعادة بالنسبة للحبيب. "هنيئاً مريئاً" هنا تقال بمرارة وسخرية من الألم الذي يعيشه الشاعر.
7. **يا نفس المتيّم في الحب اقبري**
هنا يخاطب الشاعر نفسه المتيمة في الحب، طالباً منها أن تدفن نفسها، تعبيراً عن الفناء والاستسلام الكامل لمشاعر الحب والعذاب.
8. **يا عين المُهَيّم بالدمع امطري**
يخاطب عينيه مجدداً، ويطلب منها أن تستمر في البكاء حتى تسيل دموعه بغزارة، وكأن العين أمطرت بالدموع حزناً على الفراق.
9. **سقّي الأرض لمّا (حّدّ المنصري)**
يستمر الشاعر في تصوير دمعه، فيقول إن دموعه ستسقي الأرض حتى تصل إلى منطقة بعيدة، يُشار إليها بـ "حد المنصري"، في تعبير عن الغزارة والشدة.
10. **ليته ليت با يُطلِقني آسري**
يتمنى الشاعر أن يطلقه الحبيب من أسر الحب الذي يعيشه، وكأنه سجين في مشاعر الحب ولا يستطيع الخلاص منها.
11. **ليته ليت با "يصفى لي الجابري"**
في هذا البيت، يعبر الشاعر عن أمله في أن يصطلح مع شخص يُدعى "الجابري"، قد يكون هذا الشخص رمزاً للحب أو طرفاً في العلاقة بينه وبين الحبيب.
12. **قلبي له عقيرة تحت الحازري**
يشير الشاعر إلى أن قلبه قد أصابه التعب والضعف تحت "الحازري"، وهو موضع ربما يرمز إلى مكان الألم أو منطقة صعبة، مما يعكس الشدة التي يشعر بها في قلبه. وهناك معنى آخر للعقيرة وهو الذبيحة و الحازري هو حد السكين أي أن الشاعر يشبه قلبه بالذبيحة لاجل الحبيب.
13. **خلّي من جبينه يطلـع قامري**
يتغزل الشاعر هنا بجمال الحبيب، حيث يشبه جبينه بالقمر الذي يضيء السماء، مما يعكس جمال الحبيب الباهر.
14. **خلّي في خدوده جنة ناظري**
يصف الشاعر خدود الحبيب وكأنها جنة تتنعم بها عينا الشاعر، مما يبرز جمال الحبيب الذي يسحر الناظر إليه.
15. **خلّي في شفاته خمرة خاطري**
يشبّه الشاعر شفاه الحبيب بالخمر التي تثير في نفسه الشوق والحب، وكأن الشفاه تحمل معه سكر الحب والفتنة.
16. **فيها الحب في الوادي يجـري جري**
يصور الشاعر الحب الذي يحمله تجاه الحبيب وكأنه نهر يجري في الوادي، مما يرمز إلى استمرار الحب و تدفقه دون توقف.
17. **خلّي في غرامه ضل (السامري)**
في هذا البيت، يشبه الشاعر الحبيب بظل السامري الذي اغوى بنو اسرائيل، وهو رمز للاغواء والجاذبية الى الحب، ويشير إلى أن حب الحبيب قوي ومؤثر يترك أثراً عميقاً في قلب الشاعر.
مضمون القصيدة وأحاسيس الشاعر:
القصيدة تعبر عن معاناة الشاعر من فراق الحبيب وجفائه، وتُظهر الألم العميق الذي يشعر به نتيجة الحب الذي أصبح عبئا كبيرا عليه. الشاعر عبدالله هادي سبيت يصور مشاعره المتأججة وأحاسيسه المتضاربة بين الحزن والحنين، وبين الأمل واليأس. يشعر الشاعر بالضياع والانكسار بعد أن تخلى عنه الحبيب، ويبدو وكأنه محاصر في دوامة من الألم والرغبة في العودة إلى الحبيب.
الشاعر يستخدم في قصيدته لغة تجمع بين الحزن العميق والعتاب، فهو يتحدث عن الدموع التي لا تتوقف، والليل الذي أصبح سهرا دائما، والعين التي لا تعرف الراحة. كما يظهر إحساسه بالخذلان حينما يصف الحبيب بأنه باعه وتخلى عنه، متمنيا في الوقت نفسه أن يعود الحبيب ويعيد الصلة بينهما.
هناك أيضا شعور بالاستسلام للألم، حيث يطلب الشاعر من نفسه "المتيّمة" أن تدفن نفسها في الحب، وكأنه يقول إن الألم قد بلغ ذروته ولا مجال للفرار منه. هذا الاستسلام يعبر عن التعلق الشديد بالحبيب رغم الجفاء الذي يعانيه.
في الوقت ذاته، تظهر القصيدة بعض اللمحات من الغزل، حيث يتغزل الشاعر بجمال الحبيب واصفا جبينه بالقمر و خدوده بأنها جنة لعينيه. حتى وسط الألم والفراق، لا يزال الشاعر معجبا بجمال الحبيب وسحره الذي لا ينفصل عنه، مما يضيف بعدا من التناقض بين الحب والعذاب.
باختصار، القصيدة تنقل إحساسا قويا بالفقدان والحسرة، مع محاولة الشاعر الموازنة بين عواطفه الجياشة وحقيقة الفراق و الجفاء.
الفنان المرحوم محمد صالح حمدون قدّم أداءً متميزا لهذه القصيدة بصوته الذي يُوصف بالملائكي. هذا الوصف لا يأتي فقط من جمال صوته، بل من قدرته على إيصال مشاعر الشاعر بشكل عميق وشفاف. حمدون كان معروفا بقدرته الفائقة على الغناء بأسلوب يمس القلوب، ويضيف بُعدا آخر للكلمات، ما يجعل المستمع يشعر بأحاسيس الشاعر وكأنها تتحدث إليه شخصيا. من خلال أدائه، كان حمدون يبرز التناقضات التي عاشها الشاعر بين الألم والحب، وبين الفراق والحنين، وذلك بأسلوب هادئ ومليء بالشجن. صوته الهادئ والنقي يعزز من تأثير الكلمات، ويمزج بين النغمات العاطفية و الحزينة التي تليق بمضمون القصيدة.
بالإضافة إلى ذلك، كان لحمدون قدرة على تنويع الأداء في لحظات معينة، مستخدما التلاعب بالصوت للتعبير عن الألم العميق أو الرغبة المتجددة في الرجوع إلى الحبيب. هذا الأداء يجعل المستمع يتفاعل مع كل بيت من القصيدة، و كأن حمدون ينقل مشاعر الشاعر مباشرة من قلبه إلى قلوب الجمهور. صوت محمد صالح حمدون في هذه الأغنية يبقى حاضرا في الذاكرة كجزء من التراث الموسيقي اللحجي و اليمني ككل، وقد ترك بصمة لا تُنسى في عالم الغناء بسبب أسلوبه الفريد الذي جمع بين الفن والإحساس الحقيقي.
رحم الله الشاعر عبدالله هادي سبيت والفنان محمد صالح حمدون على كل ما قدموه لا ثراء التراث والفن اليمني و في لحج خاصة.
*كتب: د/عارف محمد عباد السقاف